صحةكيف ؟معرفة

لهذا السبب تهرب منك المعلومات حين تحتاجها وتعود حين لا تحتاجها

تخيلّ معي المشهد التالي: بينما تجلس لمتابعة إحدى المسلسلات تظهر في مشهدٍ مأدبةٌ عامرةٌ بأشهى المأكولات، لكن ما يلفت انتباهك هو طبقك المفضّل بينما يتهافت الممثلون على تناوله، يسيل لعابك ثم تتذكّر أنك قد تناولت هذا الطبق البارحة وقد بقي بعض منه في البراد، تقف مستهمّاً وتتوجه نحو المطبخ ليرن الهاتف فتجيب لكنك لا تتعرف على صوت المتحدث؛ إذ أنه يشبه صوت جارتكم أم سعيد لكنه يشبه صوت خالتك إيمان أيضاً، تنهي المكالمة فتنادي أمك عليك أن تحضر لها المقص، فتتذكر حين كنت تستخدمه آخر مرة في قصّ قطعة ورق مقوى لتضعها أسفل رجل الطاولة المتخلخلة في غرفتك ثم أنك قد وضعته أعلى الطاولة، تذهب لإحضاره وتنفّذ المهمة بنجاح، لتجد نفسك بعدها واقفاً في المطبخ غير قادرٍ على تذكر ما أردت فعله أول الأمر!

تناولت هذه القصة البسيطة أنواعاً مختلفة من حوادث النسيان والتذكر، إن كنت قد مررت بحادثة تشابهها من قبل فلا تقلق لست الوحيد. سنتحرى في مقالنا اليوم عن سبب اختفاء المعلومات وعودة ظهورها المفاجئ وسنزودك في النهاية ببعض النصائح التي ستساعدك في إحكام قبضتك على ذكرياتك.

لم وكيف ننسى؟

قبل أن نتعرّف على بعض النظريات وراء نسياننا مختلف الأمور بدءاً باسم مغنٍ ما وحتى غياب اسم صديقك المفضل تماماً عن بالك، لنرى أولاً كيف تتشكّل الذكريات.

كيف تتشكّل الذكريات؟

يرتبط تشكّل الذكريات بالحُصين في الدماغ ويُعتقد أنه المسؤول الأساسي عن نقل المعلومات من الذاكرة قصيرة الأمد وتحويلها إلى معلوماتٍ دائمة في الذاكرة طويلة الأمد، كما أن الذكريات تُخزّن كإشاراتٍ كهربائية وكيميائية في الدماغ حيث تتصل الخلايا العصبية ببعضها البعض في أنماطٍ معينة تسمى المشابك العصبية وعملية تذكّر شيءٍ ما هي عبارةٌ عن تحفيزٍ لهذه المشابك.

كيف ننسى؟ نظريات النسيان المتعلقة بالذاكرة قصيرة الأمد

اضمحلال الأثر Trace Decay Theory of Forgetting

ترتبط هذه النظرية بالفترة الزمنية التي تستطيع الذاكرة قصيرة الأمد الاحتفاظ فيها بالمعلومات، تتراوح عادةً بين 15 إلى 30 ثانية. بعد انتهاء الفترة الزمنية التخزينية، تبدأ الذاكرة بمسح المعلومات الأضعف لتخزين معلوماتٍ جديدة.

أجرى كلّ من الباحثيّن دونالد نورمان ونانسي وا تجربةً في محاولةٍ لدعم هذا النظرية؛ حيث أعطيا المشاركين قائمةً من الأرقام ليحفظوها ويعيدوا ذكرها، في كلّ مرةٍ كان الوقت المعطى للحفظ يقلّ. لاحظا من النتائج أنه كلما قلّت الفترة الزمنية الممنوحة، تذكّر المشاركون عدداً أكبر من الأرقام.

من أهم المشاكل التي تواجه داعمي هذه النظرية وتؤثر في نتائجها، هي ضعف قدرة الباحثين في التحكم بالأحداث بين التعلّم أو الحفظ واسترجاع المعلومات ولذلك فهم غير قادرين على التأكد ما إن كان طول فترة الاسترجاع أم المؤثرات الأخرى هي ما يؤثر فعلياً في ضعف التذكر.

الإزاحة من الذاكرة قصيرة الأمد Displacement from STM

ترتبط هذه النظرية بسعة الذاكرة قصيرة الأمد وكونها محدودة للغاية إذ أنها تخزّن ما بين 5 إلى 9 عناصر فقط. تقول هذه النظرية أنه وبعد امتلاء الذاكرة قصيرة الأمد تبدأ المعلومات الجديدة بتنحية القديمة.

أتى دعم هذه النظرية من التجارب التي يُطلق عليها اسم التذكّر الحر أو “Free-recall”، حيث تُقرأ للمشاركين بالتجربة قائمةً من الكلمات، يفصل بين نطق الكلمة والكلمة التي تليها ثانيتان، ثم يُطلب منهم تذكّر أكبر عددٍ من الكلمات دون إعطاء أهميةٍ للترتيب.

تكشف نتائج التجربة أن المشاركين يتذكّرون الكلمات التي تُذكر في البداية والنهاية وينسون الكلمات التي تُقرأ في منتصف التجربة.

كيف ننسى؟ نظريات النسيان المتعلقة بالذاكرة طويلة الأمد

نظرية التداخل أثناء التذكر Interference

كانت هذه النظرية رائجةً للغاية في أوائل القرن الماضي، افترض العلماء آنذاك أنه يمكن للذكريات أن تتداخل مع ما تعلّمناه سابقاً أو ما سنتعلمه في المستقبل، تشير إلى أن المعلومات الموجودة في الذاكرة طويلة الأمد، قد تصبح مشوشةً أو مدمجةً مع معلوماتٍ أخرى أثناء انتقالها من الذاكرة قصيرة الأمد إلى طويلة الأمد، ما يؤدي إلى تشويه أو تعطيل الذكريات وبالتالي النسيان؛ يمكن أن يحدث هذا الخلل بطريقتين:

  • التداخل الاستباقي: يحدث ذلك حين تُعطّل المعلومات القديمة القدرة على الاحتفاظ بمعلوماتٍ جديدة كأن تتعلم ركن السيارة بطريقةٍ ما، ثم تكتشف وجود طريقةٍ جديدة لفعل ذلك لكنك مهما حاولت تصبح غير قادرٍ على تعلّمها.
  • التداخل الرجعي: ما يجري هنا هو العكس، حيث تنسيك المعلومات الجديدة معلومةً قديمة كنت قد تعلمتها سابقاً.

يتجلى تأثير التداخل واضحاً في المعلومات المتشابهة.

الفشل في التذكر  Retrieval Failure

تشير هذه النظرية لكون جميع المعلومات مخزنة فعلياً في الذاكرة طويلة الأمد لكن المشكلة لدينا تكمن في استعادتها، يوجد ضمنها ما يُعرف بتأثير طرف اللسان TOT -حين تشعر أنك على وشك تذكر شيءٍ ما لكنك لا تستطيع- ويعتمد استرجاع المعلومات المخزنة هنا على 3 أمور:

  • السياق: هنا يستطيع المرء استعادة المعلومة بتكرار الموقف، مثل أن تعيد تراتبية الأحداث لتتذكر ما أردت جلبه من المطبخ.
  • الحالة: ترتبط بعوامل خارجية أو بالشخص نفسه مثل أن يكون المرء تحت تأثير دواءٍ معيّن، أو يشعر بنعاسٍ شديد، وهنا يحتاج لأن يغير حالته ليتذكّر بشكلٍ أفضل، أو مثلاً أنك لم تكن جائعاً فعلاً حين اشتهيت طبق الطعام ولذا لم تذكر سبباً منطقياً لوجودك في المطبخ.
  • الإشارات والمحفزات: مثل أن تعود لمشاهدة التلفاز ويظهر إعلان المسلسل الذي كنت تتابعه ما يدفعك لتذكر ما أردت فعله في المطبخ.

لماذا ننسى؟ الأسباب البيولوجية وراء النسيان

التقدّم في العمر وتأثيره على الذاكرة

من المهم هنا التمييز بين ضعف الذاكرة الطبيعي الذي يزداد كلما تقدّمنا بالعمر ومشاكل الذاكرة الخطيرة.

يكون الأمر اعتيادياً عند:

  • نسيان في أيّ يومٍ نحن وتذكر ذلك لاحقاً.
  • نسيان كلمةٍ معينة أثناء الحديث.
  • إضاعة شيءٍ ما من وقتٍ لآخر.

يكون الأمر خطيراً وتجدر استشارة طبيب عند:

  • فقدان الإدراك بشكلٍ كامل لتاريخ اليوم والشهر والسنة.
  • مشاكل مستمرة أثناء محاولة إجراء حديث (نسيان الأسماء والمفردات…).
  • إضاعة الأشياء بشكلٍ مستمر وعدم القدرة على إيجادها لاحقاً.

الاكتئاب وتأثيره على الذاكرة

يرتبط النسيان في حالة الاكتئاب بالذاكرة قصيرة الأمد؛ حيث أن المستويات المتدنية للسيروتونين تجعل انتباه الشخص يقلّ تجاه المعلومات الجديدة ما يضعف تشكيل الذكريات قصيرة الأمد، وقد أظهرت الدراسات أن الاكتئاب لا يؤثر على الذاكرة طويلة الأمد ولا على الذاكرة الإجرائية المسؤولة عن الوظائف الحركية.

الإجهاد المزمن وتأثيره على الذاكرة

يحصل الإجهاد المزمن نتيجة الضغوط المستمرة لفترةٍ طويلة، حيث تؤدي الضغوط لإفراز هرمونات التوتر التي تُعتبر مفيدةً في حالاتٍ معينة، فتساعدنا على الهرب أو التصرف السريع عند التعرض لخطر مثلاً. لكنّ الإجهاد الزائد الذي يؤدي لإفرازها بشكلٍ مستمر، يقود إلى إغراق الجسم بها، ما ينتج عنه عواقب تتراوح بين ارتفاع ضغط الدم وتلف الألياف العضلية وحتى إلحاق الضرر بالدماغ وخلاياه، حيث يمنع الإجهاد المزمن نمو الخلايا العصبية داخل الحصين ما يؤدي إلى إضعاف الذاكرة.

كيف تعود المعلومات والذكريات فجأة؟

اكتشف مجموعةٌ من العلماء الباحثين في مؤسسة بيكوير للتعلم والذاكرة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، آليةً يعمل الدماغ وفقها حينما نتذكّر أمراً ما بالرغم من كوننا لم نكن نفكر به، تحديداً مثل أن تتذكر أمراً محرجاً فعلته قبل 10 أعوامٍ بينما تفتح خزانة ملابسك صباحاً. الدور الأكبر في تذكر هذا الأمر المحرج يعود لخلايا إنجرام وهي بحسب الدراسة “مجموعة من الخلايا العصبية التي تُشفّر باتصالها ببعضها ذكرى من خلال نمطٍ محدد لاتصالها”.

لشرح طريقة عمل تلك الخلايا بشكلٍ مبسط لنطبق الآلية على مثالنا السابق: حين فتحت الخزانة صباحاً وقع نظرك على زيٍ ارتديته في حفل العام الفائت، ثمّ تذكرت أنك ذهبت إلى الحفل بصحبة صديقك أمير، كان أمير قد سكب على بنطاله كأس عصيرٍ عن طريق الخطأ فضحكت، لكن ذلك جعلك تشعر بالخجل من نفسك لأنك تضحك على مآسي غيرك ما ذكرك بأن الأمر نفسه حصل معك قبلها بـ 10 أعوام.

فعلياً، الذكريات موجودة أصلاً في دماغك وهي متصلةٌ ومرتبطة ببعضها البعض، ويؤدي تحفيز إحداها إلى تفعيل أخرى ومن هنا تأتي المعلومات غير المتوقعة. بالطبع ليس بالضرورة أن يكون الأمر محرجاً أو على القدر نفسه من الدراما.

نصائح لتقوية ذاكرتك… تذكّرها😉

تناول طعاماً صحياً

  • خفف السكر أو اقطعه: يرتبط استهلاك السكر بضعف الذاكرة وتقليل حجم الدماغ خاصةً في المنطقة المسؤولة عن الذاكرة قصيرة الأمد، كما يرتبط استهلاك السكر على المدى الطويل بزيادة احتمال الإصابة بالزهايمر مع التقدّم في السن.
  • استعن بالأوميغا-3: أظهرت العديد من الدراسات أن تناول مكملات الأسماك وزيت السمك قد يحسن الذاكرة، خاصةً عند كبار السن حيث وجدت إحدى الدراسات التي أجريت على 36 شخصاً من كبار السن الذين يعانون من ضعفٍ إدراكي خفيف، تحسّن الذاكرة قصيرة الأمد لديهم بعد تناول مكملات زيت السمك المركزة لمدة 12 شهراً.

مارس التمارين الرياضية

تفيد ممارسة التمارين الرياضية في تحسين النشاط الدماغي لمختلف الأعمار فتزيد من إفراز البروتينات التي تحمي الأعصاب وتحسن نمو وتطور الخلايا العصبية، كما أن ممارستها بعد سن الخمسين تساعد في حماية المرء من الإصابة بمختلف أنواع الخرف في وقت لاحق.

جرّب التأمل بهدف التذكر

كلما تقدّم المرء في العمر اضمحلّت المادة الرمادية في الدماغ أكثر وقد ثبت أن التأمل يزيدها. كما أن التأمل يزيد من مرونة الدماغ ويؤثر بشكل مباشر على الذاكرة طويلة الأمد.

احرص على أن تحصل على قسطٍ كافٍ من النوم

يمكن أن تسبب قلة النوم خللاً في الوظائف المعرفية بما فيها قدرة الدماغ على تشكيل وتخزين الذكريات، كما أن النوم يرتبط بشدة بقدرة الدماغ على تحويل المعلومات من الذاكرة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد، لذا فمن المهم أن يحصل الشخص البالغ على عدد ساعات نوم تتراوح بين 7 إلى 9 ساعات.

درّب دماغك على التذكر

أظهرت دراسة أجريت على 5 آلاف شخصٍ تقريباً، أنه بعد استخدامهم تطبيقاتٍ لتدريب الدماغ على الهاتف النقال لمدة 15 دقيقة على الأقل لـ 5 أيام في الأسبوع، تحسنت الذاكرة قصيرة الأمد والذاكرة العاملة والتركيز ومهارات حل المشكلات لديهم بشكلٍ ملحوظ.

لربما ننظر إلى النسيان دوماً على أنه أمرٌ سلبي ونبحث باستمرارٍ عن خلطاتٍ وتمارين لتقويّ ذاكرتنا، لكن من المهم أيضاً أن نتذكر الجانب الإيجابي له وليس فقط لأننا حين ننسى نتجاوز التجارب المؤلمة بشكلٍ أفضل، لكن لكون العديد من الدراسات أثبتت أن المرء يحتاج لأن ينسى كي يتذكّر بشكلٍ فعال وصحيح ولأننا لو كنا نتذكر كلّ شيءٍ طوال الوقت لما كنا قادرين على التركيز، لا أنا في كتابة المقال ولا أنتم في قراءته.

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock